أخبار عاجلة

الإعاقة العقلية في ضوء التاريخ

* أولا : تاريخ الإعاقة العقلية قبل الإسلام

التخلف العقلي ظاهرة قديمة قدم البشر أنفسهم, فالملاحظ أن الناس يتوزعون في صفاتهم وقدراتهم توزعا طبيعيا بين طرف تزداد لديه الصفة أو القدرة زيادة كبيرة, وطرف آخر تنقص لديه الصفة أو القدرة نقصانا كبيرا ، وفيما بين الطرفين يتوزع الناس توزيعا اعتداليا
لو عدنا إلى تاريخ المتخلفين عقليا عبر العصور والحضارات المتنوعة لوجدناه واحدا من أكثر فصول تاريخ الحضارة الإنسانية قتامه وقسوة, حيث ظلت معاملة المختلفين عقليا ، ربما بشكل خاص حالات التخلف العقلي الشديد – واحدة من أكثر فصول تاريخ البشرية إثارة للاشمئزاز.
في القبائل الهمجية في العصور القديمة من التاريخ كان المتخلفون عقليا يساقون إلى الموت باعتبارهم أفرادا غير نافعين للجنس البشرى. وفي اسبرطة ظل الأشخاص المتخلفون عقليا يبادون بلا أدنى رحمة أو شفقة حتى لا تنحدر دولتهم التي كانت تقوم على احترام القوة. كذلك فقد نادى الفلاسفة الإغريق بمبدأ البقاء للأصلح، بل ربما كانوا يطبقون ما يعرف الآن بتنقية )تحسين النسل). وفي تلك الآونة أو ما يعرف بعصر الحضارة الإغريقية لم يطرأ تحسن على أوضاع المتخلفين عقليا. وقد وصفت الكلمة الإغريقيةIdios ومعناه المعتوه, والتي ظلت تستخدم إلى وقت قريب، هؤلاء الأفراد بأنهم بهم مس من الشيطان وكانوا يتركون لحال سبيلهم حتى الموت, كما كانوا يستخدمون لأغراض التسلية والإضحاك والسخرية خاصة في بيوت الأغنياء ومما يذكر أن زوجة سينيكا كانت تحتفظ في بيتها بشخص أعمى وأبله (متخلف عقليا) بقصد التسلية. وفي الوقت الذي تشير فيه الوثائق إلى أن الرومان كانوا يستخدمون المتخلفين عقليا بقصد التسلية والإضحاك فلم يرد ما يشير إلى أي جهد من أجل مساعدتهم في تلك الفترة.
وفي العصر المسيحي بدت في روما تتسم بالعطف والشفقة على البؤساء بما فيهم المتخلفين عقليا الذين نالهم جانب من التحسن, حيث أصبحوا يزودون بالملابس والطعام والمأوى، وفرت تعاليم جوستينيان للمتخلفين عقليا وللصم البكم أوصياء يقومون على مصالحهم.
ومع بداية ما عرف بعصر التنوير والإصلاح الديني المسيحي في أوربا وصل حال المتخلفين عقليا أدنى مستوياتها, فقد اهتمت حركة الإصلاح بالمسئولية الشخصية ، واعتبر أولئك الذين لا يفقهون أو لا يوافقون على تعاليم المذاهب الكاثوليكيه أو البروستانتية مستحقين للاضطهاد والتعذيب، كما اعتبر كل من مارتن لوثرLuther وجون كالفين Calvin وهما من زعماء الإصلاح الديني في أوربا أن الأشخاص المتخلفين عقليا بهم مس من الشيطان. وقد وصف (مارتين لوثر) في إحدى خطبه طفلا لديه تخلف عقلي عمره اثنا عشر عاما ،وكان يتمعض وهو يصفه ويقول(إنه يأكل ويتبرز ويسيل لعابه) وقد أوصى لوثر بأن يؤخذ هذا الصبي إلى النهر ويلقى به ليموت غرقا ، وعندما سئل لماذا أوصى بهذه الوصية قال إنه يعتقد إن هذه المخلوقات إنما هي كتل من اللحم, وأن الشيطان يتملكها ويجلس فيها مكان الروح .
ونتيجة لهذه النظرة كان الأشخاص المتخلفون عقليا يساقون إلى التعذيب الذي كان يترك على القائمين به آثارا نفسية أكثر وضوحا مما يتركه لدى الذين يقع عليهم التعذيب وهو الأمر الذي مهد لظهور مرحلة من توفير الحماية.
وفى أواسط القرن السابع عشر الميلادي قام القديس ) فينسينت دى بول) وأخواته المحسنات بإنشاء مؤسسة إيوائية في باريس عرفت بمؤسسة
البايسيترThe Bicetre لمن لا مأوى لهم
(المشردين) والمعوقين عقليا أو بدنيا. وكان الإيواء والطعام والملبس والحماية هي أقصى ما قدم للمتخلفين في ذلك الوقت دون أي محاولات لتعليمهم أو تدريبهم. ويمكن أن نقول: إن هذه الفترة من حياة المعوقين عموما هي فترة الملجأ حيث كان الإيواء والحماية من الاستغلال وتقديم الضروريات الخاصة بالحياة هي كل ما يقدم لهم دون أي محاولة لفهم مشكلاتهم أو مساعدتهم بشكل مخطط.
وفي تلك الفترة أثار العالم لوك Locke (1632-1704) في بحثه عن التفهم أن التعلم يأتي عن طريق الحواس ويجب أن تصاحبه أحاسيس مبهجة, وتبعه روسو Rousseau الذي كان يؤمن بأن التعليم يجب أن يقوم على أساس من القدرات الأساسية للطفل, وكان لهذين الباحثين السبق في توجيه الأنظار نحو موضوع قدرات الأطفال.وسوف نتناول فيما بقي من هذا الفصل أهم العلامات البارزة في تطور رعاية المتخلفين عقليا في العصر الحديث.
لقد ظهرت تعاريف كثيرة للتخلف العقلي منذ بدأ العمل الجاد مع الطفل الذي عثر عليه في غابات إيفيرون بفرنسا عام 1811 والذي عرف بطفل إفيرون الوحشي

– واتجه بعض هذه التعريفات إلى المنحى الطبي, بينما توجه البعض الآخر توجها مسلكيا ولازال البعض الثالث يعرف التخلف العقلي من منظور إحصائي. ونعرض فيما يلي لعدد من التعريفات القديمة ثم ننتقل بعدها لعرض التعريف الحديث للتخلف العقلي والذي أصبح شائعا ومعترفا به في كثير من المحافل ونعرض أخيرا للتعريفات التي صدرت في العقد الأخير من القرن العشرين.
أولا: التعريفات القديمة: التعريفات الطبية: Medical Definitions
يهتم المجال الطبي بالتخلف العقلي من حيث إن التشخيص يبدأ عادة من عيادة الطبيب وبصفة خاصة تلك الحالات الإكلينيكية ذات المظهر الخارجي المميز أو ذات الخصائص البيولوجية المميزة – وفيما يلي عدد من التعريفات الطبية للتخلف العقلي.
1- تعريف ساجان 1907 Seguin
إن طاقة العقل للنمو تكون متساوية لدى جميع الأطفال حديثي الولادة ولكن الأعضاء التي تنقل الرسائل الحسية إلى المخ يكون بها نقص أو غير كافية لدى بعض الأفراد ومن ثم تمنع الخبرات من أن تنقل بصورة فعالة .
2- تعريف تريد جولد 1937 Tredgold
الشخص الراشد المتخلف عقليا تكون لديه حالة من عدم اكتمال النمو العقلي من نوع ودرجة يكون هذا الفرد فيها غير قادر على تكييف نفسه مع البيئة المعتادة لأقرانه بطريقة تحافظ على بقائه مستقلا عن الإشراف والمراقبة والمساندة الخارجية .
3- تعريف دول 1941 Doll
وضع إدجار دول تعريفا للتخلف العقلي عام 1941 ظل سائدا لفترة طويلة وينص هذا التعريف على ما يأتي:لكي تعرف شخصا ما على أنه متخلف عقليا يلزم توافر ستة عناصر:
-عدم النضج الاجتماعي.
-يرجع إلى نقص عقلي.
– ناتج عن توقف في النمو العقلي.
– يتضح عند البلوغ.
-له أصل بنيوى (موروث أو مكتسب) .
– وهو بالضرورة غير قابل للشفاء عن طريق العلاج.

4- تعريف جيرفيز 1952 Jervis
يمكن تعريف الضعف النقص العقلي من جهة نظر طبية كحالة من النمو العقلي المتوقف أو غير المكتمل ناتجة عن مرض أو إصابة قبل المراهقة أو ناشئة عن أسباب وراثية                                                                                                                                                                                                                  5- تعريف ساراسون 1955Sarason

 يشير التخلف العقلي إلى الأفراد الذين لأسباب مؤقتة أو مستديمة يكون أداؤهم الذهني تحت المتوسط الذي يحققه زملاؤهم العاديين ولكن ملاءمتهم الاجتماعية ليست موضع تساؤل وإذا كانت موضع تساؤل فإن هناك احتمالا أن يستطيع الفرد أن يتعلم كيف يؤدى بشكل مستقل وملائم في المجتمع.
كما يعرف ساراسون التخلف العقلي بتعريف آخر هو: يشير النقص العقلي: إلى الأفراد غير الملائمين اجتماعيا نتيجة لعيب ذهني يمثل انعكاسا لقصور في الجهاز العصبي, وهو بالضرورة غير قابل للشفاء .
6- تعريف وزارة الصحة البريطانية 1959
الضعف العقلي الشديد حالة من النمو المكبل أو غير المكتمل للعقل، تشمل انخفاض الذكاء وذات طبيعة ودرجة تجعل المريض غير قادر على حياة مستقلة لحماية نفسه ضد الاستغلال وضد الأخطار أو يصبح غير قادر على هذا النحو في السن التي يحتاج فيه لذلك.
أما الضعف العقلي Subnormality فهو يشير إلى حالة تشمل على انخفاض الذكاء وذات طبيعة أو درجة تستلزم, أو تكون قابلة, للعلاج الطبي أو غيره من الرعاية الخاصة أو التدريب للمريض .
7- تعريف كالستوى  1972 Kolostoe

حالة من التوقف الذهني في مستوى ما تحت المستوى الذي أطلق عليه بياجية Piaget مستوى التفكير الرسمي .
8- تعريف الجمعية الملكية الطبية النفسية 1975
التخلف العقلي: حالة من نمو متوقف أو غير مكتمل للعقل تظهر في صور مختلفة, والصورة المعتادة هي الإخفاق في تكوين ما يعرف بوظائف الذكاء والتي يمكن أن تقاس بالطرق السيكوميترية تحت مسميات مثل العمر العقلي, ونسبة الذكاء, وفى حالات أخرى فإن العقل غير النامي قد يظهر أساسا في صورة إخفاق في المحافظة على ضبط معتاد على العواطف, أو الوصول إلى المواصفات المطلوبة للسلوك الاجتماعي العادي.
ثانياً : رعاية الإسلام للمعاق عقلياً
أما في الإسلام شهد المعوقون بجميع فئاتهم كل مظاهر العون والرعاية والتقبل من المجتمع بالإضافة إلى ما تضمنته الشريعة الإسلامية من حقوق لهم, ورفع بعض التكاليف الشرعية عنهم ، ويشير كثير من المؤرخين الغربيين بأن المجتمع الإسلامي كان أول المجتمعات التي قدمت برامج رعاية حقيقية للمعوقين ووفر لهم كل سبل العيش الكريم والاندماج مع سائر أفراد المجتمع ،هذا بالإضافة إلى أن الإسلام أبطل عادات جاهلية مثل قتل الأطفال ووأد البنات والتي كان من بين أسبابها في ذلك الوقت وجود إعاقات أو الخوف من الفقر.
إن المعوق هو جزء من المجتمع الإسلامي ويناله ما ينال المجتمع عامة، فضلا عما خص الإسلام ضعفاءه من أحكام. ولننظر إلى هذه الآية الكريمة (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)  .
فرفع الله بهذه الآية الحرج عن المسافر والمريض فأباح لهما الفطر في شهر رمضان الذي فرض صيامه على المسلمين. فأي شريعة سمحاء هذه وأية أنظمة أو حضارة يمكن أن تضاهيها بله أن تدانيها؟
والمعاق الذي يعاني من الشعور بالنقص داخليا ومن نظرة سوء مجتمعية خارجية يأتي الإسلام ليرشده إلى أن العاهة العظمى هي عاهة النفس والدين والخلق، وإذا قارن بين هذه العاهة وعاهته الظاهرة يشعر بالرضا وهو ما عناه القرآن الكريم بقوله (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) .
والإسلام الذي جعل التفاضل بين الناس بالعمل الصالح لم ينظر إلى صورة الإنسان الظاهرة وإنما غاص في أعماق نفسه وجعل التفاضل بالتقوى، وبذا أفسح المجال الرحب للصحيح والمريض ولذي العاهة، والمعافى منها وللكبير والصغير، للذكر والأنثى، لكل أفرد المجتمع على اختلاف صورهم وأشكالهم وثرائهم وعلو مكانتهم أو انخفاضها ولو كان بهم مرض وعمى وشلل، ومن تخلف وأخلد للسكون سقط في الساحة وفي الاعتبار، ولو كان حائزا على جميع القيم الأرضية من صحة وجاه وجمال.
إذا كان الإسلام قد ركز على معالجة المعوق من الناحية النفسية فقد حض المجتمع على الأخذ بيده، ففي الحديث الصحيح (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) متفق عليه. وعنه أيضا (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وقد قامت الدولة الأموية ببناء أول مشفى لمعالجة المجذومين عام 88 هجرية
ثم بنيت مشافي خاصة للبلهاء والمجانين منذ القرن الأول الهجري في حين كان الاتجاه في الغرب إلى العناية بالأصحاء وإهمال المرضى.
وأما رعاية أهل البلاء واهتمام الدولة بهم فإننا نسجل بكل فخر، إن أطباء العرب هم أول من عالج الأمراض العقلية بطريقة إنسانية. ففي كل مشفى كبير كان يوجد قسم خاص بهذه الأمراض. وكان الحاكم، يزورهم، ويحكى أن المنصور كان يزور هؤلاء المرضى كل يوم جمعة ويتفقد أحوالهم. ولم ينقطع عن زيارتهم إلا بعد أن أوذي من أحدهم، فاكتفى بعد ذلك بالسؤال عن أحوالهم.
وأما عن حال هؤلاء داخل المستشفى فيصوره ما جاء في صك وقف أحد المستشفيات في حلب من أن كل مجنون يخص بخادمين يخدمانه، فينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء البارد، ثم يلبسانه ثيابا نظيفة، ويحملانه على أداء الصلاة، ويسمعانه قراءة القرآن يقرأه عليهم قارئ حسن الصوت. ثم يفسحانه بالهواء الطلق. ويسمع في الآخر الأصوات الجميلة والنغمات الموسيقية الطيبة.
وما كل هذا حبرا على ورق أو شطحة خيال ولمن شاء أن يعرف تاريخ المشافي في العالم العربي وكيف كان سير العمل فيها إدارة وفنا فليرجع إلى ما كتب في تاريخ الطب ففيه الغناء.
أما المستشفيات الثابتة فقد كانت كثيرة تفيض بها المدن والعواصم، وإن لكل بلدة صغيرة في العالم الإسلامي يومئذ مستشفى فأكثر، حتى أن قرطبة وحدها كان فيها خمسون مستشفى. وكل واحدة منها لنوع من الأمراض، فمنها للأمراض الداخلية، ومنها للعيون، ومنها للجراحة ومنها للكسور والتجبير، ومنها للأمراض العقلية…الخ.
ولقد أشاد الخلفاء والأمراء والأطباء وغيرهم هذه المشافي ورصدوا لها الأوقاف الكبيرة والتي كانت تدر موارد تكفي للقيام بحاجات المستشفى من غذاء وكساء ومحروقات وأدوية وسواها مع دفع أجور الأطباء والممرضين.فإذا كانت نظرة الإسلام الرحيم للإنسان، وقد خص الأضعف منه بالرعاية بهذه النظرة الشاملة (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم).
وبقي المجتمع المسلم طيلة هذه القرون، تربة مباركة لتلك القيمة الربانية ،على ما شابه من الانحراف عن الهدي الإسلامي، والمتأمل في تاريخنا العلمي يجد عددا كبيرا من العلماء أصبحت عاهتهم علماً عليهم: كالأحول والأخفش والأصم والأعرج والأعمش والأعمى والأفطس. ولقد بلغ هؤلاء في تاريخنا العلمي والفكري، مكانا حسبهم أن نور عبقريتهم لم يطفئه كر السنين ولا جهل أحفادهم.                                                                                                                                                                                  * المصدر
موقع ملتقى العالم العربي لذوي الاحتياجات الخاصة

عن admin

شاهد أيضاً

بعض الجهات تصدر بطاقة معاق .. ماهي؟ وما فائدتها؟

بعض الجهات الحكومية المختصة بخدمات المعاقين تصدر بطاقة بمسمى بطاقة معاق لكي تثبت حالة اعاقته …

اترك تعليقاً